لم يتوقع أكثر المتفائلين عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية مرة أخرى، خاصة بعد سجله الحافل بالأمور المثيرة للجدل. ففي بدايات عام 2020، عند مغادرته البيت الأبيض، بلغ عدد ضحايا جائحة كورونا في الولايات المتحدة أكثر من 400 ألف شخص، وهي حصيلة تفوق عدد القتلى في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وقصف بيرل هاربر في السابع من ديسمبر/ كانون الأول 1941. يضاف إلى ذلك تشكيكه في العملية الديمقراطية، حيث أنكر نتائج الانتخابات التي فاز فيها جو بايدن، وحرض أنصاره على مهاجمة الكونغرس لتعطيل اعتماد النتائج.
ولم تكن هذه الحوادث سوى جزء من إرث ترامب المثير للجدل، الذي يشمل أيضًا اتهامه وإدانته في 34 تهمة، وتبنيه خطابًا شعبويًا أحدث انقسامًا مجتمعيًا حادًا، وسياسة خارجية انعزالية. على خلفية هذا الموروث، يحاول هذا المقال الإجابة عن عدة تساؤلات: ما الذي تمثله عودة ترامب للبيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2025 لمستقبل الديمقراطية الأميركية؟ وما هي محددات سياسته الخارجية في الشرق الأوسط؟ وكيف سيؤثر توليه الرئاسة على مستقبل حلف الناتو والحرب الأوكرانية؟ وأخيرًا، إلى أي مدى سيؤثر خطابه القائم على مبدأ "أميركا أولًا" على مستقبل النظام الدولي وموازين القوة العالمية؟
مستقبل الديمقراطية الأميركية في ظل ترامب
يرى كثيرون أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تشكل تحديًا كبيرًا لمستقبل الديمقراطية الأميركية. بل إن البعض يذهب إلى حد القول إن نجاح الولايات المتحدة في الحفاظ على مؤسساتها الديمقراطية خلال السنوات الأربع القادمة يُعد إنجازًا بحد ذاته، خاصة في ظل انقسامات سياسية واجتماعية عميقة.
وتكمن مخاوف الكثيرين في نظرة ترامب للصحافة وحرية الإعلام، حيث يُعتبر وسائل الإعلام "عدو الشعب"، وفق تعبيره. كما يُتوقع أن يصدر ترامب أوامر تنفيذية تمنحه سلطة فصل موظفي الخدمة المدنية الذين لا يُظهرون الولاء الشخصي له، بدلًا من الالتزام بالقانون والدستور. ويُقدَّر عدد المهددين بالفصل بحوالي 50 ألف موظف، مما قد يُضعف مؤسسات الدولة ويُهدد استقرار النظام الديمقراطي.
ترامب والشرق الأوسط: سياسة اقتصادية أم أمنية؟
تنبع سياسة ترامب المتوقعة في الشرق الأوسط من منظور اقتصادي بحت، بعيدًا عن الاعتبارات الأمنية والجيوستراتيجية التي طالما سيطرت على سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. فترامب ينظر إلى العلاقات الدولية من خلال عدسة الربح والخسارة، وليس من خلال تعزيز النفوذ الأمني أو العسكري.
وقد تجلى هذا المنهج في دوره في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل قبل دخوله البيت الأبيض. ورغم أن البعض يرى أن الاتفاق كان مجرد محاولة لتعزيز صورته كوسيط قوي، إلا أن ترامب يُعتقد أنه يسعى لبناء شبكة مصالح اقتصادية في المنطقة، بدلًا من الانخراط في صراعات طويلة الأمد.
ومن المتوقع أن تعمل إدارة ترامب على توسيع نطاق اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول المنطقة، مع التركيز على تعزيز المصالح الاقتصادية. ومع ذلك، فإن العلاقة مع إيران ستظل متوترة، حيث يُتوقع أن تتبنى الإدارة سياسة عقوبات اقتصادية صارمة، مع تجنب الدخول في مواجهة عسكرية شاملة.
الحرب الأوكرانية وحلف الناتو: انكماش أم انسحاب؟
يُعتقد أن ترامب سيعيد النظر في سياسة الولايات المتحدة تجاه الحرب الأوكرانية، حيث أعلن خلال حملته الانتخابية أنه قادر على إنهاء الحرب في غضون يوم واحد. ومع ذلك، فإن الواقع أكثر تعقيدًا، خاصة في ظل شروط روسيا التي تشمل الاعتراف بالأراضي المحتلة وإغلاق ملف انضمام أوكرانيا لحلف الناتو.
ومن المرجح أن تشهد العلاقة بين واشنطن وحلف الناتو فتورًا، حيث سيحاول ترامب الضغط على الحلفاء الأوروبيين لزيادة مساهماتهم المالية في الميزانية الدفاعية للحلف. وفي الوقت نفسه، قد يشهد الدعم الأميركي لأوكرانيا انحسارًا، مما سيؤثر على قدرة كييف على مواصلة مقاومتها للغزو الروسي.
العلاقة مع الصين: تجدد دورة التنافس
تشكل الصين التحدي الأكبر للإدارة الأميركية الجديدة، حيث ستواصل واشنطن سياسة الاحتواء الاقتصادي والعسكري لبكين. ومن المتوقع أن يعيد ترامب فرض التعريفات الجمركية على الصين، مع تعزيز التحالفات الإقليمية مع دول مثل اليابان والهند وأستراليا.
ومع ذلك، فإن موقف ترامب من القضايا الأمنية، مثل تايوان والمطالبات بالسيادة على بحر الصين الجنوبي، يظل غامضًا. وفي المقابل، تواصل الصين تحديث ترسانتها العسكرية، مع هدف معلن يتمثل في التفوق على الولايات المتحدة وإخراجها من بحرَي الصين الشرقي والجنوبي.
الخلاصة: تحديات داخلية وانعكاسات عالمية
تشكل عودة ترامب إلى البيت الأبيض تحديًا كبيرًا للديمقراطية الأميركية، حيث يُتوقع أن تشهد الولايات المتحدة مزيدًا من الانقسامات والاستقطاب السياسي. وعلى الصعيد الخارجي، ستواجه الإدارة الجديدة تحديات كبيرة في إدارة العلاقات مع الشرق الأوسط وأوروبا والصين، في ظل سياسة خارجية تقوم على البراغماتية الاقتصادية ومبدأ "أميركا أولًا".
وفي النهاية، فإن عودة ترامب ستترك انعكاسات عميقة على النظام الدولي، حيث ستواصل الولايات المتحدة تراجعها النسبي كقوة عظمى، في ظل تنافس محموم مع الصين وروسيا. ومع ذلك، فإن قدرة ترامب على تحقيق أهدافه ستظل مرهونة بقدرته على التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها إدارته.