الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
كلنا يعرف أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته لاقى من المشركين ما لاقى من الأذى والاستهزاء، حتى إنه لم يكن يدخل فجًا من فجاج مكة ولا سكًة من سككها إلا وسمع تلك الكلمات التي ربما تجرح قلبه وتُدمِع عينيه: "كاهن، شاعر، ساحر، مجنون". ثم تطور الأمر إلى قضية اتهامه في عرضه الشريف وفي فراشه الطاهر مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها. ولكن كان القرآن الكريم دائمًا يؤيد النبي صلى الله عليه وسلم ويؤكد صدق رسالته.
إعجاز القرآن
حينما نزل القرآن الكريم، كان مليئًا بالإعجاز الذي لا يمكن إنكاره. ومن ذلك أن القرآن ذكر العديد من الحيوانات، مثل البقرة، والحمار، والنحل، والنمل، والفيل، والبعير، والجمل، وغيرها. وقد استهزأ كفار قريش حينما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن هذه الحيوانات في القرآن، وقالوا: "إن محمداً يضحك على عقولكم، يأتي ببقرة ويقول هذا قرآن، ويأتي بهدهد ويقول هذا قرآن!" لكن الله جل وعلا رد عليهم بقوله: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها" ، فأظهر الإعجاز في أدق التفاصيل.
العبرة في قصص القرآن
قصص القرآن ليست مجرد حكايات أو أساطير، بل هي دروس وعبر لكل زمان ومكان. الله سبحانه وتعالى يقول: "لقد كان في قصصهم عبرة" . العبرة ليست فقط للتذكير، بل تعني الانتقال من حالة إلى أخرى، أي أن القصة يجب أن تنقلنا من موقع إلى موقع أفضل، وأن تكون لنا مفتاحًا نحو الفهم والعمل.
الهدهد وسليمان عليه السلام
حديثنا اليوم عن قصة الهدهد، وهو طائر ذكره الله في القرآن الكريم ضمن عشرة أجناس من الطيور، منها الغراب، والنحل، والعصفور، وغيرهم. الهدهد له مكانة خاصة في الإسلام؛ فقد نُهينا عن قتله لأن هذا الطائر قام برسالة عظيمة في زمن النبي سليمان عليه السلام.
سليمان عليه السلام كان نبيًّا وملكًا، وقد سخر الله له الريح والجن والطير والحشرات. وكان يومًا ما يتفقد جيشه، فمر بوادي النمل. هنا ظهرت النملة التي خافت على قومها وقالت: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" . فتبسم سليمان ضاحكًا من قولها، وقال: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وان أعمل صالحاً ترضاه" .
لكن بعد ذلك غاب الهدهد، فسأل عنه سليمان. عندما عاد الهدهد، جاء بنبأ عظيم: "إني وجدت امرأةً تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، ووجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله" . كانت هذه المرأة هي بلقيس، ملكة سبأ.
اختبار بلقيس
قرر سليمان أن يختبر بلقيس وقومها بإرسال رسالة إليها تحمل الدعوة إلى الإسلام. قال في رسالته: "بسم الله الرحمن الرحيم، إنه من سليمان وإنه ألا تعلوا عليَّ وأتونِ مسلمين" . بلقيس، وهي امرأة ذكية، جمعت وزراءها وحاشيتها واستشارتهم. فقالوا لها: "نحن أولو قوة وأولو باس شديد" . لكنها كانت أذكى منهم، وقالت: "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة" . ثم قررت إرسال هدية لسليمان لاختباره.
رد سليمان
حينما جاءت الهدية، رفضها سليمان وقال: "أتمدونني بمال؟ ما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون" . ثم أرسل جيشًا قويًا ليخرج بلقيس وقومها أذلة. هنا أدركت بلقيس أن سليمان ليس ملكًا عاديًا، بل هو نبي ورسول. فقررت الاستسلام والإسلام.
دخول بلقيس في الإسلام
حينما جاءت بلقيس إلى سليمان، أراد أن يختبر إيمانها. أمر بتغيير تصميم عرشها، فلما رأته قالت: "كانه هو" . ثم دخلت الصرح الذي كان مرصوفًا بالزجاج، فحسبته ماءً وكشفت عن ساقيها خوفًا من البلل. هنا أخبرها سليمان أنه صرح ممرد من قوارير، فأدركت أن هذا الفضل من عند الله، وقالت: "ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" .
العبرة من القصة
هذه القصة مليئة بالدروس والعبر:
- أهمية التوحيد : الهدهد كان غيورًا على التوحيد، ولم يتحمل رؤية قوم يسجدون للشمس من دون الله.
- العدل والحكمة : سليمان كان ملكًا عادلًا وحكيمًا، يسير على نهج الأنبياء في الحكم.
- قوة الإيمان : بلقيس رغم أنها كانت ملكة قوية، إلا أن الحق أثر فيها وأسلمت.
- العبرة من القصص : كل قصة في القرآن يجب أن تكون لنا عبرة تنقلنا من حال إلى حال أفضل.
أسأل الله أن يجعل هذه القصة عبرة لنا جميعًا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل. اللهم اجعلنا من الشاكرين الذين يعملون بمقتضى شكرهم، وأدخلنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين.