في واحدة من أسوأ المآسي التي شهدها التاريخ الإسلامي، وقعت مدينة بغداد تحت سيطرة المغول بقيادة هولاكو خان حفيد جنكيز خان في عام 1258م. هذا الحدث لم يكن مجرد هجوم على عاصمة الخلافة الإسلامية بل كان محاولة مدروسة لإنهاء الإسلام كقوة سياسية وثقافية عظمى. كانت هذه اللحظة نقطة تحول في تاريخ المسلمين، حيث انتهت الخلافة العباسية التي استمرت لأكثر من خمسة قرون، وحلّت محلها فترة من الظلام والدمار.
خلفية الأحداث
قبل الغزو المغولي، كانت الإمبراطورية المغولية قد توسعت بشكل غير مسبوق بفضل استراتيجيات جنكيز خان العسكرية وخططه السياسية. عند وفاته، قسم أراضيه بين أبنائه، وكان نصيب ابنه تولوي منطقة فارس والمناطق العربية. ومع مرور الزمن، أصبح هولاكو خان أحد أبرز القادة المغوليين الذين حملوا لواء التوسع العسكري. أرسله أخيه منكو خان لغزو إيران ومن ثم العراق، بهدف السيطرة على العالم الإسلامي وإنشاء مركز قيادة جديد للمغول بالقرب من المناطق المستهدفة.
كان هولاكو يدرك أهمية بغداد كمركز للخلافة الإسلامية، ولكنه أيضًا رأى ضعف الدولة العباسية واضمحلال قوتها. الخلافة العباسية آنذاك كانت تعاني من مشكلات داخلية خطيرة، منها:
- ضعف الحكم : الخلفاء العباسيون فقدوا السيطرة الفعلية على الولايات التابعة لهم، حيث أصبح كل أمير أو والٍ يحكم منطقته بشكل مستقل.
- التقليص المتعمد للجيش : الخلفاء العباسيون مثل المستعصم بالله قلّصوا عدد الجيش إلى حوالي 12,000 مقاتل فقط، وهو عدد ضئيل للغاية مقارنة بجيوش الأعداء.
- الفساد والإهمال : الخلفاء كانوا منشغلين بتجميع الثروات بدلاً من إدارة شؤون الدولة والعناية بشعبهم.
- التفرقة الداخلية : المجتمع الإسلامي كان منقسمًا بين فئات متعددة، مما أدى إلى زيادة الفوضى وعدم الاستقرار.
كل هذه العوامل جعلت بغداد هدفًا سهلًا للمغول.
بداية الهجوم
بدأ هولاكو حملته بتجهيز جيش ضخم بلغ عدده حوالي 200,000 مقاتل، معززًا بقوات من الصليبيين والمحاربين المحليين الذين انضموا إليه بسبب عدائهم للمسلمين. قبل الهجوم، أرسل هولاكو رسالة إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله ، طالبًا منه تسليم المدينة والاستسلام دون مقاومة. لكن الخليفة، الذي كان يعيش في حالة من اللامبالاة والغرور، أرسل ردًا غامضًا يمزج بين التودد والتهديد، مما أثار غضب هولاكو وزاد من تصميمه على غزو بغداد.
سقوط بغداد
في يناير 1258م، بدأ المغول حصارهم للمدينة من الشرق والغرب. استخدموا المنجنيق لتدمير أسوار بغداد، بينما كان الخليفة لا يزال منشغلًا باللهو والطرب. حتى عندما بدأت السهام تتساقط على قصر الخلافة، لم يستيقظ المستعصم بالله إلا بعد فوات الأوان.
حاول الخليفة إرسال عدة وفود إلى هولاكو لطلب السلام، لكن الأخير رفض جميع العروض. في النهاية، استسلم الخليفة وأبناءه و700 شخص من المسؤولين والفقهاء للمغول. ولكن هولاكو لم يرحمهم؛ إذ أمر بإعدام جميع من جاءوا مع الخليفة، بما في ذلك العلماء والقضاة.
المجزرة والمذبحة
بعد دخول المغول إلى بغداد، ارتكبوا واحدة من أبشع المجازر في التاريخ. قتلوا الرجال والنساء والأطفال، واغتصبوا النساء، ونهبوا البيوت والأسواق. كانت الشوارع مليئة بالجثث، والنهر امتلأ بالكتب والمخطوطات المحترقة التي ألقيت فيه من مكتبات بغداد، حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى الأسود.
الأماكن الإسلامية المقدسة لم تسلم أيضًا؛ فقد تم تدمير المساجد والمدارس الدينية، وحرق الكتب النادرة التي كانت تشكل ثروة علمية وثقافية لا تقدر بثمن. يُقال إن عدد الضحايا بلغ ما بين مليون إلى مليون و800 ألف شخص، معظمهم من المسلمين، بينما تم توفير الحماية للمسيحيين بسبب تحريضهم للمغول على الهجوم.
نهاية الخليفة العباسي
بعد الاستيلاء على المدينة، أخذ هولاكو الخليفة المستعصم بالله إلى قصره وأظهر له الكنوز التي كان يجمعها. سأله بسخرية: "إذا كنت تعلم أن الذهب لا يؤكل، فلماذا لم توزعه على جنودك لحمايتهم؟". ثم وضع الخليفة في السجن، حيث كان يُعطى الذهب بدلاً من الطعام حتى مات جوعًا أو خنقًا (تختلف الروايات حول كيفية موته).
النتائج الكارثية
- انتهاء الخلافة العباسية : كانت هذه هي النهاية الرسمية للخلافة العباسية التي استمرت أكثر من 500 عام.
- تدمير التراث الإسلامي : فقد المسلمون آلاف الكتب والمخطوطات التي كانت تمثل ذروة الفكر الإنساني في العلوم والفلسفة.
- انتشار الأوبئة : بسبب الجثث المتناثرة في الشوارع، انتشر الطاعون والمرض، مما زاد من عدد الضحايا.
- تراجع الحضارة الإسلامية : دخل العالم الإسلامي في فترة طويلة من الانحطاط الثقافي والعلمي نتيجة لهذه الكارثة.
العبرة من الحدث
سقوط بغداد ليس مجرد قصة عن هجوم عسكري، بل هو درس عميق عن أهمية الوحدة والتخطيط الاستراتيجي. عندما يصبح الحكام منفصلين عن شعوبهم، وتسيطر الأنانية واللامبالاة على قراراتهم، فإن الدول تصبح عرضة للسقوط أمام أعدائها. كما أن التعاون مع العدو، كما فعل ابن العلقمي ، يمكن أن يؤدي إلى كوارث لا يمكن إصلاحها.
ختامًا
إن قصة سقوط بغداد ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي نداء لكل الأجيال القادمة بأن تتعلم من أخطاء الماضي. يجب أن نحافظ على وحدتنا، وأن نعمل دائمًا على بناء مجتمعات قوية ومتماسكة، لأن التاريخ يعيد نفسه إذا لم نستفد من دروسه.