في يومٍ من الأيام، بينما كنت أتجول في كتب التاريخ القديم، سمعت قصّةً عجيبة عن رجلٍ لم يكن محظوظًا فقط في حياته، بل كان الحظ قد وُلد معه، بل وأكثر من ذلك... كان محظوظًا حتى قبل أن يولد!
وإنني لأكاد أقسم بسماعي هذه القصة من أحد الكهول الذين حفظوا تاريخ فارس كأنهم شهود عيان، جلست إليه ذات مساء تحت ظلال شجرةٍ قديمة، يحكي لي عن ملكٍ غير مألوف، عن سابور الثاني ، ملك الملوك الفرس، أو كما عرفه الناس بـ"ذو الأكتاف".
البداية: الملك هرمز والقرار الذي غيّر التاريخ
قبل أن نصل إلى سابور، علينا أولًا أن نعود إلى أبيه، الملك هرمز ، الذي كان مثالاً للدهاء والصرامة. كان هذا الملك لا يعرف النوم إلا بعد أن يتأكد أن دولته في أمان، وكان يرفض الزواج لأنه يرى فيه تشتتًا لتركيزه على الحكم.
لكن جاء اليوم الذي أدرك فيه أن استمرارية حكم السلالة يتطلب وجود وريث. هنا، وبإصرارٍ عجيب، قرر أن يتزوج، رغم محاولات وزرائه إبعاده عن الفكرة، كلٌّ لمصلحته الخاصة.
اختار الملك زوجته بعناية، وتم الزفاف العظيم، لكن... لم يدم طويلًا. بعد فترة وجيزة من الزواج، أُصيب الملك بالمرض، واقتراب الأجل جعله يستدعي الكاتب ويقول له:
"أنا الآن أعين خليفة الدولة... خليفتي هو ابني، الموجود في رحم زوجتي!"
استغرب الجميع، لكن هرمز كان يعلم أنه يضع حجر الأساس لعهد جديد، عهد لن يُنسى.
الحمل يحكم... وتتويج الجنين
بعد وفاة الملك هرمز، بدأت مرحلة استثنائية حقًا. فقد حكمت زوجة الملك وهي حامل، وانتشر الخبر في جميع أنحاء الإمبراطورية: "الملك قد مات، وخلفه ابنه... وهو لا يزال في بطن أمه!"
وكان التتويج الأكثر غرابة في التاريخ؛ حيث وقف الملك الحقيقي أمام بطن الملكة، ووضع التاج فوقه،
وقال:
"الحاكم ليس أنتِ... الحاكم هو من بطنك."
وبعد تسعة أشهر، وُلد الطفل، وسُمي سابور ، وفي لحظة ولادته، بدأت دولة بأكملها تنتظر ما سيصنعه هذا الملك الذي وُلد وقد حمل لقب "ملك الملوك" منذ رحم أمه.
صعود الملك الصغير
نشأ سابور في قصر المَدائن، وترعرع في بيئة مليئة بالاحترام والتقدير، وبدأ يتعلم السياسة والحرب والدين، وكان أبرز ما برز فيه مهارته في الفروسية.
لكن في تلك الفترة، كانت الإمبراطورية الفارسية تضعف شيئًا فشيئًا، بسبب الغارات المتكررة من العرب، وغياب القيادة الحقيقية. أما الرومان، فكانوا يراقبون كل شيء، مستعدّين لاغتنام أي فرصة.
عندما استيقظ الأسد!
كبر سابور، وبدأت عيناه تنيران بصائر من حوله. في أحد الأيام، بينما كان يمشي في المدينة، رأى رجلاً مكسور الخاطر، يقول:
"والله، في عهد والدك لم يكن أحد يجرؤ على إيذاء الفارسي، أما الآن... فالعربي الوضيع ينهب ويسبي نسائنا!"
وهنا، استيقظ الأسد. أدرك سابور أن دولته في خطر، وأن الوقت قد حان لرد الاعتبار.
جمع الجيوش، وقادها بنفسه، وشن حملةً على القبائل العربية، واستطاع أن يعيد الهيبة لفارس، بل وتوسع فيها.
ثم اتجه نحو مملكة الضيزن الغساني ، الذي كان يغزو فارس ويتعاون مع الرومان. هنا، حدثت واحدة من أغرب القصص التي سمعتها في حياتي...
قصة الحب التي غيّرت مصير مملكة
كان الضيزن قد حصّن نفسه في قلعته، وتحصن خلف أسواره، لكن بنته موليكا ، الفتاة الجميلة التي لا يُقاوَم جمالها، رأت سابور من بعيد، فوقع في قلبها الحب.
قررت أن تخون أبوها، وراسلت سابور، وعدّت له طريق الدخول إلى القلعة، بشروط بسيطة: أن يتزوجها، وأن لا يبقى له زوجة أخرى.
لم تمضِ سوى ليلة، حتى فتحت بوابات القلعة من الداخل، ودخل سابور، وانتهى أمر الضيزن بمأساة مدوية.
الثمن الباهظ للحب
لكن ماذا بعد الزواج؟
عاشا فترة من الزمن معًا، وكانت موليكا مصدر سعادة سابور، حتى جاءت الليلة التي كشفت له عن جزء من الحقيقة.
في إحدى الليالي، بينما كان الاثنان نائمين، بدأت موليكا تتقلب في السرير، فقالت:
"المكان اللي أنا نائمة فيه مش مريح."
بحث سابور في الفراش، فوجد ورقة صغيرة مطوية تحتها... كانت ورقة ضرة!
هذه اللحظة كانت بداية الشك، ثم اليقين، بأن موليكا ربما تكون قادرة على الغدر مرة أخرى. فقرر أن يختبرها.
سألها:
"ماذا كان يلبسك والدك؟"
"الحرير."
"وماذا كان يطعمك؟"
"أشهى اللحوم والفواكه."
فرد عليها:
"هذا الرجل كان يعطيك كل شيء، ومع ذلك غدرتِ به... كيف أثق بك؟"
فأمر بربطها من شعرها، وجَرّها في الطريق حتى ماتت، كعقاب على الخيانة.
الحرب الكبرى مع الرومان
لم تدم الهدوء طويلاً. فاستشهاد الضيزن أغضب ملوك الغساسنة، فتوجّهوا إلى بريانيوس ، حاكم روما الجديد، الذي كان قد عاد إلى الوثنية، وطلبوا منه المساعدة.
فجهز بريانيوس جيشًا ضخمًا يزيد عن 500 ألف مقاتل، وانطلق نحو فارس.
أما سابور، فكان يعلم أن المواجهة القادمة ستكون فاصلة، فأرسل رسائل إلى جميع ممالك فارس يطلب النجدة، وجمع جيشًا من 100 ألف مقاتل فقط، ووقف أمام جيش عملاق.
لكن... هنا تدخّل الحظ مرة أخرى.
بينما كان بريانيوس يجلس في خيمته، أُصيب بسهمٍ من السماء، ومات فورًا. حدث اضطراب كبير في الجيش الروماني، واختلف الرأي بين القادة، فانقسموا.
وكان برثانوس ، أحد القادة الرومان، صديقًا قديمًا لسابور، فقررا إنهاء الحرب عبر المفاوضات.
اتفق الرجلان على تعويضات مالية، وتنازلات إقليمية، وعاد كل طرف إلى بلاده، وانتهى الخطر الكبير.
خاتمة القصة
عاش سابور حياة مليئة بالانتصارات، وحكم فارس بحكمةٍ وقوة، واستطاع أن يعيد مجدها، رغم كل المصاعب.
وقد سُمي بـذو الأكتاف لكثرة المعارك التي خاضها، لكنني شخصيًا أفضّل أن أسميه: "الملك المحظوظ"... بل "الملك الذي صنع حظه بيده."
فهل رأيتَ يومًا رجلًا وُلد ملكًا، وحكم قبل أن يولد، وحقق مجداً لا يُنسى؟
هذه هي قصة سابور الثاني، ملك الملوك، والتي أخبرني بها شيخٌ عاش بين الكتب، وكأنه كان هناك... كل لحظة.