نيكولا تسلا: العبقري الذي أضاء العالم

محور الحيث
المؤلف محور الحيث
تاريخ النشر
آخر تحديث


نيكولا تسلا، اسمٌ يحمل في طياته الكثير من الأساطير والأسرار، هو أحد أعظم العقول التي ساهمت في تشكيل العالم الحديث. ولد تسلا في قرية صغيرة في كرواتيا عام 1856، في زمن الإمبراطورية النمساوية المجرية، لوالدين صربيين. منذ صغره، أظهر تسلا شغفًا بالعلوم والهندسة، حيث درس الرياضيات والفيزياء في النمسا والفلسفة في التشيك. لكن طموحاته كانت أكبر من أن تُحتوى في أوروبا، فقرر الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حاملاً معه حلمًا كبيرًا: تقديم عصر الطاقة التي لا تنتهي للعالم.

عند وصوله إلى نيويورك، عمل تسلا في شركة المخترع الشهير توماس إديسون، الذي ارتبط اسمه باختراع المصباح الكهربائي. كان إديسون معروفًا ببراعته في مجال التيار الكهربائي المباشر (DC)، لكن تسلا كان مقتنعًا بأن التيار المتردد (AC) هو المستقبل. ومع ذلك، عندما نجح تسلا في حل مشكلات هندسية معقدة واجهتها شركة إديسون، فوجئ بأن إديسون لم يوفِ بوعده بمكافأته ماليًا. هذا الخلاف كان بداية لصراع طويل بين الرجلين، تحول لاحقًا إلى منافسة شرسة في عالم الكهرباء.


بعد ترك وظيفته مع إديسون، واجه تسلا صعوبات مالية كبيرة، واضطر إلى العمل كحفار للخنادق مقابل دولارين في اليوم. لكن حظه تغير عندما التقى بالمخترع ورجل الأعمال جورج وستنغهاوس، الذي رأى في أفكار تسلا حول التيار المتردد فرصة لتغيير قواعد اللعبة في عالم الطاقة. مع دعم وستنغهاوس، تمكن تسلا من تطوير وتطبيق نظام التيار المتردد، الذي أثبت تفوقه على التيار المباشر في نقل الطاقة عبر مسافات طويلة. هذا الاختراع كان نقطة تحول كبرى في تاريخ الكهرباء، وأصبح التيار المتردد المعيار العالمي لنقل الطاقة حتى يومنا هذا.

لكن الصراع بين تسلا وإديسون لم يتوقف عند هذا الحد. في محاولة لإثبات خطورة التيار المتردد، رتب إديسون عرضًا مروعًا حيث تم إعدام مجرم مدان بالقتل باستخدام كرسي كهربائي يعمل بالتيار المتردد. ومع ذلك، فشلت هذه المحاولة في إيقاف تقدم التيار المتردد، الذي أثبت كفاءته وفعاليته.


على الرغم من نجاحه التقني، لم يكن تسلا رجل أعمال ناجحًا. فقد تخلى عن حقوقه المالية في براءات اختراعه لصالح وستنغهاوس، مما جعله يفقد فرصة لتحقيق ثروة كبيرة. ومع ذلك، استمر تسلا في الابتكار، حيث قدم اختراعات أخرى مثل المحركات الكهربائية المتقدمة وتقنيات الراديو اللاسلكي. بل إنه أجرى عرضًا ناجحًا للتحكم في قارب عن بعد باستخدام موجات الراديو، مما أذهل الحاضرين.

لكن حياة تسلا لم تخلُ من التحديات والإخفاقات. فقد حاول بناء شبكة اتصالات عالمية باستخدام برج "واردنكليف"، الذي كان يهدف إلى نقل الطاقة والاتصالات لاسلكيًا عبر العالم. ومع ذلك، نفدت الأموال قبل اكتمال المشروع، ورفض المستثمرون دعمه. بالإضافة إلى ذلك، دمر تسلا جميع ملاحظاته ونماذجه الأولية قبل وفاته، مما أضاف إلى غموض إرثه.

توفي تسلا في عام 1943 عن عمر يناهز 86 عامًا، بعد أن أمضى سنواته الأخيرة في فندق بنيويورك، حيث كان يعيش في فقر نسبي. وعلى الرغم من إنجازاته الكبيرة، لم يحصل تسلا على التقدير الكافي خلال حياته. بل إن منافسه العتيد، غولييلمو ماركوني، حصل على جائزة نوبل لتطوير الراديو، بينما كان تسلا قد قدم إسهامات كبيرة في هذا المجال.

في السنوات الأخيرة، شهد إرث تسلا احتفاءً متجددًا، حيث تم الاعتراف بإنجازاته كواحدة من أعظم الإسهامات في تاريخ العلوم والتكنولوجيا. حتى أن شركة السيارات الكهربائية الشهيرة "تسلا"، التي أسسها إيلون ماسك، سُميت على اسمه تكريمًا لرؤيته الثورية.

لكن تسلا لم يكن مجرد مخترع عبقري؛ فقد كان أيضًا شخصية غريبة الأطوار، معروفًا بسلوكياته غير المألوفة، مثل غسل يديه ثلاث مرات متتالية أو التجول حول مبنى ثلاث مرات قبل دخوله. هذه التصرفات، إلى جانب افتتانه بالأرقام، غذت العديد من الأساطير حوله، مما أضاف إلى سحر شخصيته.


لرؤية اللاسلكية: برج واردنكليف



لم يكن تسلا راضيًا عن إنجازاته في مجال الكهرباء فقط. كان لديه رؤية أكبر: إنشاء شبكة اتصالات لاسلكية عالمية. في عام 1901، بدأ بناء برج "واردنكليف" في لونغ آيلاند، نيويورك، والذي كان من المفترض أن يكون مركزًا لنقل الطاقة والاتصالات لاسلكيًا عبر العالم. كان تسلا يعتقد أن هذا البرج سيمكنه من نقل الصوت والصور وحتى الطاقة الكهربائية دون الحاجة إلى أسلاك.


لكن المشروع واجه صعوبات مالية كبيرة. المستثمرون، بمن فيهم جي. بي. مورغان، الذي كان يدعم تسلا في البداية، بدأوا يفقدون الثقة في المشروع بسبب تكاليفه الباهظة وعدم وضوح الجدوى التجارية. في النهاية، تم إيقاف المشروع، وتم هدم البرج لاحقًا. ومع ذلك، فإن فكرة تسلا حول الاتصالات اللاسلكية كانت بمثابة الأساس لتطوير الراديو والاتصالات الحديثة.


إرث تسلا: بين الأسطورة والحقيقة

على الرغم من إنجازاته الكبيرة، عاش تسلا سنواته الأخيرة في فقر نسبي. كان يقضي معظم وقته في فندق في نيويورك، حيث كان يعمل على أفكار جديدة، بعضها كان غريبًا حتى بالنسبة لمعايير ذلك الوقت. كان تسلا يعاني من اضطرابات نفسية، بما في ذلك الوسواس القهري، مما جعله شخصية غريبة الأطوار. كان يغسل يديه بشكل متكرر، ويتجنب لمس الأشياء التي يعتبرها غير نظيفة، وكان لديه هوس بالأرقام، خاصة الرقم ثلاثة.


بعد وفاته في عام 1943، تم اكتشاف أن تسلا كان يعمل على مشاريع سرية، بما في ذلك ما أسماه "شعاع الموت"، وهو سلاح يعتمد على شعاع من الجسيمات يمكنه تدمير الأهداف من على بعد أميال. هذه الأفكار، التي كانت تعتبر خيالية في ذلك الوقت، ألهمت الكثير من النظريات حول أسلحة الطاقة الموجهة التي يتم تطويرها اليوم.


التقدير المتأخر

على الرغم من أن تسلا لم يحصل على التقدير الكافي خلال حياته، إلا أن إرثه بدأ يتلقى الاهتمام الذي يستحقه في العقود الأخيرة. تم تسمية شركة السيارات الكهربائية الشهيرة "تسلا" على اسمه، تكريمًا لرؤيته الثورية في مجال الطاقة. بالإضافة إلى ذلك، تم تحويل مختبره القديم في لونغ آيلاند إلى متحف، حيث يمكن للزوار التعرف على إنجازاته وأفكاره.

لكن تسلا لم يكن مجرد مخترع؛ كان أيضًا فيلسوفًا يحلم بعالم أفضل. كان يؤمن بأن العلم يجب أن يكون في خدمة البشرية، وأن الطاقة يجب أن تكون متاحة للجميع. رؤيته لتوفير طاقة مجانية للعالم كانت تعتبر مثالية في ذلك الوقت، لكنها تظل مصدر إلهام للعلماء والمهندسين حتى اليوم.


الخاتمة: العبقري الذي غير العالم

نيكولا تسلا كان رجلًا استثنائيًا، جمع بين العبقرية العلمية والرؤية الفلسفية. على الرغم من التحديات التي واجهها، استمر في السعي وراء أحلامه، وترك إرثًا علميًا لا يزال يؤثر في حياتنا اليومية. من التيار المتردد إلى الاتصالات اللاسلكية، كانت أفكار تسلا بمثابة الأساس للعديد من التقنيات التي نعتمد عليها اليوم.

رحلته تذكرنا بأن العبقرية الحقيقية لا تُقاس بالثروة أو الشهرة، بل بالإرث الذي تتركه للأجيال القادمة. نيكولا تسلا، الرجل الذي سبق عصره، سيظل دائمًا مصدر إلهام لكل من يحلم بتغيير العالم.

تعليقات

عدد التعليقات : 0