في عالم الآثار والحضارات القديمة، يُعد الهرم رمزًا للعظمة الإنسانية، ودليلًا على قدرة الإنسان على تحدي الزمن وترك بصمة لا تُمحى. ومنذ آلاف السنين، شقّت الحضارات طريقها عبر الأنهار، فكانت نهرا النيل مهدًا للعديد من الحضارات العظيمة، أبرزها حضارة الفراعنة في مصر، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن هناك حضارة أخرى، لم تقل عن سابقتها إلا في الشهرة، كانت أيضًا تبني الأهرامات... بل وبنت أكثر منها!
نتحدث هنا عن السودان ، الأرض التي تختزن بين جنباتها واحدة من أعظم الإرث الحضاري في العالم، والتي تضم عددًا من الأهرامات يفوق الرقم الموجود في مصر، ويزيد على 200 هرم ، بعضها أقدم من الأهرامات المصرية الشهيرة في منطقة الجيزة.
لكن رغم هذا الغنى الحضاري الاستثنائي، فإن هذه الأهرامات تبقى بعيدة عن الأضواء، غير معروفة بشكل كافٍ حتى لدى العرب أنفسهم، ولا تزال بحاجة إلى تسليط الضوء عليها وإعادة كتابة التاريخ بطريقة أكثر إنصافًا.
الأهرامات في السودان: ليست فقط "نسخة" من الأهرامات المصرية
عندما يُذكر الهرم، فإن أول ما يخطر في البال هو هرم خوفو في الجيزة، الذي يُعد أحد عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. لكن ما قد لا يعلمه البعض أن هناك حضارة أخرى، تطورت لاحقًا على يد الملوك النوبيين، استمرت في بناء الأهرامات بعد انتهاء حقبة بناء الأهرامات في مصر.
بدأ بناء الأهرامات في السودان خلال حكم مملكة كوش ، وهي مملكة عريقة امتدت من القرن الثامن قبل الميلاد وحتى القرن الرابع الميلادي، وكانت عاصمتها الرئيسية هي مدينة ميراوي (Meroë) في شمال السودان الحديث.
ولكن قبل ذلك، أي منذ حوالي 750 قبل الميلاد، عندما غزا ملوك كوش، وخاصة الملك بأنخاي ، مصر، واستولوا على الحكم فيها، أصبحوا يعرفون باسم الملوك الكوشيين أو الملوك السودانيين ، وكان لهم دور كبير في استعادة مجدها، ونقلهم لفن العمارة والحجر إلى بلادهم الأم – السودان.
وهنا بدأت مرحلة جديدة من بناء الأهرامات، ليس فقط كمقابر للملوك، بل أيضًا للملكات والأمراء، وهو ما جعل عدد الأهرامات في السودان ضخمًا للغاية.
لماذا يزيد عدد الأهرامات في السودان على مصر؟
الإجابة ببساطة تكمن في طبيعة الحضارة النو بية، التي اعتمدت على بناء الأهرامات لعدد أكبر من الشخصيات الملكية، بما في ذلك الملكات ، اللواتي كان لهن مكانة خاصة في الثقافة الكوشية.
في مصر، غالبًا ما تم دفن الملوك داخل المقابر تحت الأرض، مثل تلك الموجودة في وادي الملوك في الأقصر، بينما في السودان، ظل الهرم هو الشكل المهيمن للمقابر الملكية، مما أدى إلى بناء عدد أكبر بكثير من الأهرامات.
إذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر:
- مصر : تحتوي على حوالي 138 هرمًا ، معظمها في الجيزة والفيوم وسقارة.
- السودان : يحتوي على أكثر من 250 هرمًا منتشرًا في عدة مواقع، أهمها ميراوي ونوري والكوسة والبركل .
ومن الجدير بالذكر أن الأهرامات في السودان أصغر حجمًا من نظيرتها في مصر، وتتميز بأنها أكثر انحدارًا، لكنها لا تقل قيمة تاريخية، بل إن بعضها أقدم من الأهرامات المصرية الكبرى.
موقع الأهرامات في السودان: أماكن سياحية مجهولة
تقع معظم الأهرامات في السودان في مناطق متفرقة، لكن أشهرها موجود في مدينة ميراوي ، وهي العاصمة السياسية والدينية لمملكة كوش، حيث يقع فيها نحو 200 هرم تقريبًا، بعضها يعود إلى ملوك، والآخر إلى ملكات وأمراء.
وهناك أيضًا موقع نوري ، حيث دُفن العديد من الملوك الكوشيين، ومن بينهم الملك طرهقه ، الذي يُعد من أشهر الملوك الذين حكموا كل من مصر والسودان.
أما موقع البركل ، فهو يحتوي على مجموعة من المعابد والأهرامات، ويُعد أحد مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو، لما يحتويه من قيمة تاريخية وثقافية عالية.
الأهرامات السودانية أقدم من بعض الأهرامات المصرية!
على الرغم من أن الأهرامات المصرية تُعد الأشهر في العالم، إلا أن بعض الأهرامات في السودان تعود إلى فترات لاحقة من الحضارة المصرية، لكن هناك بعض الأهرامات في السودان، خاصة في الكوسة ، تعود إلى فترات أقدم من بعض الأهرامات المصرية.
فعلى سبيل المثال، يعتقد أن بعض الأهرامات في الكوسة تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، أي قبل بناء العديد من الأهرامات الصغيرة في مصر، التي بُنيت في فترات متأخرة من الحضارة المصرية القديمة.
وقد تكون هذه الأهرامات هي النموذج الأولي لبناء الأهرامات في السودان، الذي تطور لاحقًا في ميراوي.
الملوك السودانيون: من هم؟ وما علاقتهم بمصر؟
كانت مملكة كوش واحدة من أقوى الدول في شمال شرق أفريقيا، وقد سيطرت على مصر في فترة ما عرفت بتاريخ العصر الكوشي ، أي العصر السابع والعشرين في التاريخ المصري القديم.
وكان أول ملوك كوش الذين استولوا على مصر هو الملك رحورتاح (Piye)، الذي غزا مصر من الجنوب، ودخل طيبة ثم Memphis، وأعلن نفسه فرعونًا.
وبعد ذلك، توالت سلسلة من الملوك الكوشيين الذين حكموا مصر، منهم:
- الملك شاباكا
- الملك شاباتيك
- الملك طرهقة
- الملك تانوتامون
هذه السلالة، وإن لم تدم طويلًا، إلا أنها تركت أثرًا واضحًا في الحضارة المصرية، خاصة في الجانب الديني والمعماري، كما أنها واصلت بناء الأهرامات في السودان، لتكون بذلك الخلف الحقيقي للأهرامات المصرية.
الأهرامات في السودان: كيف تبدو من الداخل؟
تشبه الأهرامات في السودان من حيث الشكل الخارجي الأهرامات المصرية، لكنها تختلف في الداخل، إذ أنها أقل تعقيدًا في تصميمها الداخلي.
الهرم في السودان يتكون غالبًا من:- مدخل أمامي يؤدي إلى ممر طويل.
- غرفة دفن في العمق، تحتوي على التابوت والمقتنيات الشخصية للمتوفي.
- جدران مزينة برسومات أو نصوص هيروغليفية، لكنها أقل من تلك الموجودة في مصر.
ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الأهرامات في السودان تعرضت للنهب والتخريب على أيدي علماء الآثار الأوروبيين في القرن التاسع عشر، الذين نقلوا الكثير من القطع الأثرية إلى متاحف في أوروبا، مثل المتحف البريطاني والمتحف المصري في برلين.
لماذا لم تنتشر الأهرامات السودانية في الإعلام العربي؟
رغم كل هذه العظمة والتاريخ، فإن الأهرامات في السودان لم تحظَ بالاهتمام الكافي في الإعلام العربي، وذلك لأسباب متعددة:
- غياب الدعم الحكومي والتمويل الكافي لتطوير السياحة البيئية والثقافية في السودان.
- الصورة النمطية التي تربط العرب بالحضارة المصرية دون غيرها، مما يجعلهم يغضون النظر عن الحضارات الأخرى في المنطقة العربية والإفريقية.
- الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها السودان، مما أدى إلى تراجع الاستثمار في القطاع السياحي.
- غياب الحملات التوعوية حول أهمية هذه الأهرامات، وعدم وجود مبادرات لإدراجها ضمن برامج المدارس أو الوسائط التعليمية.
مستقبل الأهرامات في السودان: هل ستتحول إلى وجهة سياحية؟
رغم كل التحديات، إلا أن هناك بوادر أمل في السنوات الأخيرة، حيث بدأ الاتحاد الأفريقي واليونسكو بالتعاون مع الحكومة السودانية في وضع خطط لحماية هذه المواقع الأثرية، وتعزيز السياحة فيها.
وقد تم تصنيف بعض هذه المواقع، مثل آثار ميراوي والبركل ، ضمن التراث العالمي لليونسكو ، مما يعني أن لها حماية دولية، ويمكن أن تصبح مراكز جذب سياحي عالمي إذا تم توفير البنية التحتية اللازمة.
مقارنة بين الأهرامات في مصر والسودان
خاتمة: السودان.. موطن الحضارة والنبوءة
رغم أن أهرامات السودان تفوق نظيراتها في مصر من حيث العدد، وتعود لحضارة نوبية عريقة ضاربة في عمق التاريخ، إلا أنها لا تزال خارج دائرة الضوء الإعلامي العربي والعالمي.
إن تسليط الضوء على هذه الكنوز الأثرية المنسية لا يعيد فقط الاعتبار لحضارة مروية، بل يفتح آفاقًا جديدة لفهم تاريخ المنطقة ودورها الحضاري العميق.
ربما آن الأوان لننظر جنوبًا، فهناك تاريخ لم يُكتشف بعد.