في قلب صحراء شبه الجزيرة العربية، حيث ترتفع الجبال وتتلوى التلال وتنحدر، يختبئ كنزٌ طبيعي خلاب لم يُكتشف إلا مؤخرًا نسبيًا، ويظل بعيدًا عن الأضواء رغم ضخامته وروعته. إنه "كهف مجلس الجن" ، أو كما يسميه البعض "مغارة الجن"، الواقع في سلطنة عمان، والذي يُعد أحد أضخم الكهوف في العالم، بل وأحد أكبر التجاويف الداخلية المكتشفة على الإطلاق.
لكن ما يجعل هذا الكهف مثيرًا للاهتمام أكثر من مجرد ضخامة حجمه، هو تلك الحقيقة المذهلة التي يتناقلها الباحثون والمستكشفون:
لو أسقطت طائرة صغيرة داخل الكهف، فلن تصيب الجدران!
نعم، هذه ليست مبالغة، ولا هي قصة خيالية، بل حقيقة علمية تؤكد أن هذا الكهف يحتوي على واحدة من أكبر الفراغات الطبيعية الداخلية في العالم، بحيث يمكن لطائرة صغيرة أن تحلق بحرية داخله دون أن تصيب جدارًا واحدًا!
اكتشاف كهف "مجلس الجن": قصة لا تُصدّق
لم يكن كهف مجلس الجن معروفًا للبشرية حتى عام 2015، عندما تم اكتشافه بالصدفة خلال مسح جوي باستخدام تقنيات الليزر (LIDAR) بواسطة شركة استكشاف نفطي تعمل في المنطقة. كان الهدف الأساسي هو رسم الخريطة الجيولوجية لمنطقة "وادي المعاول" في محافظة الداخلية بسلطنة عمان، لكن النتائج كانت مذهلة.
أظهرت الصور الجوية وجود فجوة هائلة في باطن الأرض، تفتح فمًا عملاقًا في قلب الجبل، لتبدأ بعدها سلسلة من الاستكشافات الأرضية التي كشفت عن واحدة من أعظم العجائب الجيولوجية في العالم.
الاسم "مجلس الجن" ليس له أصل تاريخي واضح، بل ظهر بعد الاكتشاف نتيجة الخرافات المحلية والقصص المتداولة بين السكان حول أماكن غريبة يعتقد أنها مأوى للجن، خاصة في المناطق النائية والمخيفة من الصحراء.
لكن العلم يقول غير ذلك: هذا الكهف هو نتاج آلاف السنين من التآكل والتغيرات الجيولوجية، وهو دليل حقيقي على قوة الطبيعة وعجائبيتها.
أبعاد كهف مجلس الجن: هل يمكنك تخيل حجم هذا الكهف؟
ما يجعل كهف مجلس الجن فريدًا حقًا هو حجمه الهائل. وفقًا للدراسات التي أجرتها فرق الاستكشاف العالمية، فإن أبعاد الكهف تفوق الخيال:
- الطول: يصل إلى حوالي 310 أمتار.
- العرض: يزيد عن 140 مترًا.
- الارتفاع: يصل إلى أكثر من 210 أمتار من الأرض إلى القمة.
لكن الرقم الأكثر إثارةً للدهشة هو حجم الفراغ الداخلي : يقدر بحوالي 4 ملايين متر مكعب من المساحة الفارغة، مما يجعله ثاني أكبر تجويف داخلي مغلق في العالم بعد "غرفة بيرل" في كهف ديمنتورا في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا يعني أنه لو تم وضع طائرة صغيرة مثل طائرة "سيسنا" داخل الكهف وإفلاتها من الأعلى، فإنها ستكون قادرة على الطيران داخله دون أن تصيب أي جدار – تمامًا كما يقال!
كيف تم التأكد من هذه الحقيقة؟
للتأكد من صحة هذه المعلومة، قامت فرق من الباحثين والجيولوجيين بإجراء اختبارات باستخدام طائرات مُصغّرة بدون طيار (Drones)، وثبت أن هناك مساحات داخل الكهف كبيرة بما يكفي لإمكانية تحليق الطائرات الصغيرة داخله دون خطر الاصطدام.
هذه الاختبارات أكدت أن السقف والأرض والجدران تترك مساحات شاسعة من الفراغ، وهي بنية تشبه إلى حد كبير قاعة عرش ضخمة، لكنها طبيعية تمامًا، ولم تمسها يد الإنسان.
كيف نشأ كهف مجلس الجن؟
العلم يقول إن كهف مجلس الجن، مثل معظم الكهوف الضخمة، نشأ نتيجة عملية طويلة من الذوبان الكيميائي للصخور الكلسية تحت الأرض، بفعل المياه الجوفية الحمضية التي تسرّبت عبر الشقوق والفتحات الصغيرة،
وخلال آلاف السنين، أدت هذه العملية إلى تشكيل تجاويف هائلة، بعضها انهار لاحقًا ليشكل فتحات كبيرة مثل فوهة كهف مجلس الجن.
لكن ما يميز هذا الكهف هو أن التجويف الرئيسي لم يتشكل بسبب الذوبان فقط، بل ربما ساعدت الزلازل والانهيارات الصخرية في توسيعه وزيادة حجمه بشكل كبير.
لماذا لم يُكتشف الكهف قبل ذلك؟
رغم ضخامة الكهف، فإنه كان مخفيًا تمامًا تحت سطح الأرض، ومغطى بطبقة سميكة من الصخور، مما جعله غير مرئي لأعين البشر، حتى مع استخدام التقنيات الأرضية العادية.
اكتشافه كان ممكنًا فقط من خلال استخدام تقنيات الليزر من الجو ، والتي يمكنها اختراق الطبقة العليا من الأرض ورسم الخريطة ثلاثية الأبعاد لما يوجد تحتها. وهذا ما فعلته الشركة النفطية، ليأتي الاكتشاف مصادفةً، وكأن الطبيعة كانت تخبئ هذا الكنز الكبير لسنوات.
أهمية كهف مجلس الجن علميًا وسياحيًا
أهمية علمية
- يُعتبر كهف مجلس الجن مصدرًا ثريًا للمعلومات الجيولوجية، خاصة فيما يتعلق بدراسة تكوّن الكهوف والفراغات تحت الأرض.
- يساعد في فهم كيفية تطور التربة والصخور في البيئات الصحراوية.
- قد يكون مصدرًا للبحث في الحياة الميكروبية التي قد توجد في الظروف المعتمة والرطبة داخل الكهف.
أهمية سياحية
- يمثل كهف مجلس الجن فرصة ذهبية لتطوير السياحة البيئية والمغامرات في سلطنة عمان.
- يمكن استخدامه كموقع لتنظيم رحلات استكشافية وتعليمية للطلاب والباحثين.
- كما يمكن تحويله إلى موقع لتصوير الأفلام أو تسجيل مقاطع فيديو مذهلة تبرز جمال الطبيعة.
لكن حتى الآن، لا تزال زيارة الكهف محدودة للغاية، ومحظورة على الزوار العاديين، وذلك لضمان الحفاظ عليه وعدم تعدي البشر عليه بطريقة قد تؤثر على تركيبته الطبيعية.
كيف يبدو المشهد من داخل الكهف؟
من داخل كهف مجلس الجن، يشعر الإنسان بأنه في عالم آخر تمامًا. الظلام يعمه، لكن عند استخدام الإضاءة المناسبة، تظهر تفاصيل رائعة من تشكيلات صخرية وتعاقب خطوط في الجدران تروي قصة تطور الكهف عبر الزمن.
الأرضية مغطاة بطبقات من الرمال والحصى، وبعضها يحتوي على رواسب معدنية نادرة. أما السقف، فهو مليء بال formations الصخرية التي تتدلى مثل الشوالف، بينما ترتفع أعمدة ضخمة من الأرض تدعم الجوانب الداخلية للكهف.
إذا كنت داخله، فستشعر بأنك في قاعة ضخمة لا نهاية لها، تتسع لكل شيء، حتى للأحلام.
التحديات والمخاطر المرتبطة بالكهف
رغم كل هذه الروعة، إلا أن كهف مجلس الجن ليس مكانًا آمنًا تمامًا للزيارة العشوائية، وهناك عدة مخاطر يجب أخذها بعين الاعتبار:
- الانهيارات المحتملة: بسبب ضخامة الكهف ووجود تشققات في بعض الجدران، هناك دائمًا احتمال لانهيار بعض الأجزاء.
- الانعدام التام للضوء: الكهف مظلم تمامًا، وقد يؤدي ذلك إلى فقدان التوازن أو التوجه إذا لم تكن لديك أدوات التنقل والإضاءة المناسبة.
- الرطوبة والهواء الرديء: في بعض الأماكن العميقة، تكون الرطوبة عالية، وقد يصبح التنفس صعبًا دون معدات تنفس مناسبة.
- الحياة البرية: قد يلجأ بعض الكائنات مثل الخفافيش أو العقارب إلى الكهف، مما يستدعي الحذر أثناء الاستكشاف.
مستقبل كهف مجلس الجن: هل سيتحول إلى مزار سياحي؟
رغم كل هذه الفرص، فإن سلطنة عمان لم تعلن رسميًا عن خطط لتحويل كهف مجلس الجن إلى مزار سياحي كبير، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب:
- الحفاظ على الطبيعة: الحكومة العمانية تدرك قيمة هذا الكهف كجزء من التراث الطبيعي، وتخشى من أن تؤدي السياحة الجماهيرية إلى تدمير تركيبته.
- التحديات اللوجستية: الوصول إلى الكهف ليس سهلًا، ويتطلب بنية تحتية كبيرة من طرق ومرافق، وهو أمر لا يزال قيد الدراسة.
- القيود الأمنية: المنطقة التي يقع فيها الكهف قريبة من مواقع استراتيجية، مما يجعل فتحها أمام العامة أمرًا معقدًا.
لكن هناك مشاريع دراسية قيد البحث، من بينها إنشاء مركز زوار قريب من الكهف، يقدم معلومات عنه وعن أهميته الطبيعية، مع إمكانية تنظيم جولات استكشافية محدودة بإشراف متخصصين.
مقارنة كهف مجلس الجن بأشهر الكهوف في العالم
رغم أن كهف مجلس الجن لا يتساوى مع كهف سون دونغ في الحجم الإجمالي، إلا أن تجويفه الداخلي يعتبر من أكبر ما اكتشف حتى الآن، وهو ما يجعله فريدًا من نوعه.
رسالة إلى محبي المغامرات والطبيعة
إذا كنت من محبي الاستكشاف، وإذا كنت تبحث عن أماكن خلابة بعيدة عن ضجيج المدن، فإن كهف مجلس الجن هو وجهتك القادمة، ولو من بعيد.
فهو ليس مجرد كهف، بل هو رمز لعظمة الطبيعة ، ودليل على أن هناك أسرارًا لا تزال مخفية تحت الأرض، تنتظر من يكتشفها.
وإن كنت ترغب يومًا في أن ترى ما لا يراه الناس، فاعلم أن هناك مكانًا في عُمان يحمل اسم "مجلس الجن"، حيث يمكن لطائرة صغيرة أن تطير داخله... دون أن تصيب الجدران!