منذ القدم، كان الإنسان مصدر فضول وانبهار بذاته. كيف لا وهو أعجوبة الكون التي خلقها الله تعالى بكل دقة وإبداع؟ ومع تطور العلوم والتكنولوجيا، كشف العلماء عن حقائق جديدة حول طبيعة الجسم البشري،
ومن بينها أنه يمكن أن يُضيء في الظلام ! نعم، قد يبدو هذا الأمر غريبًا أو حتى مستحيلاً، لكن الأبحاث الحديثة أكدت أن جسم الإنسان يصدر ضوءًا ضعيفًا جدًا غير مرئي للعين البشرية، يعرف باسم "التوهج الحيوي" أو "Biophotons". هذه الظاهرة، رغم أنها ليست جديدة، إلا أنها ما زالت تثير إعجاب العلماء والباحثين في مختلف أنحاء العالم.
القسم الأول: ما هو التوهج الحيوي (Biophotons)؟
تعريف التوهج الحيوي

اكتشاف التوهج الحيوي في الإنسان
ظهرت أولى الأدلة على وجود التوهج الحيوي لدى الإنسان في بداية القرن العشرين، لكن لم يتم تأكيد هذه الظاهرة بشكل علمي إلا في الثمانينيات من قبل عالم الفيزياء الحيوية الألماني فرانتس أنطون مسلوشوفسكي (Fritz-Albert Popp)، الذي اكتشف أن الخلايا الحية تطلق كميات صغيرة من الفوتونات (جزيئات الضوء).
في عام 2009، نشر باحثون يابانيون دراسة باستخدام كاميرات عالية الحساسية قادرة على التقاط الضوء الخافت للغاية، وأكدوا أن الجسم البشري يصدر ضوءًا ضعيفًا جدًا ، خاصة من الوجه، وأن هذا الإشعاع يتغير بناءً على الدورة اليومية للجسم (الساعة البيولوجية) ومستوى النشاط.القسم الثاني: هل يمكن رؤية الجسم البشري مضيئًا في الظلام؟
الإجابة القصيرة: لا، ولكن...
رغم أن جسم الإنسان يصدر ضوءًا، إلا أن هذا الضوء ضعيف جدًا بحيث لا يمكن رؤيته بالعين المجردة ، حتى في الظلام الكامل. يحتاج رصد هذا الضوء إلى أجهزة متخصصة مثل كاميرات CCD (الشحنات المتصلة بالصورة) المستخدمة في علم الفلك، والتي يمكنها التقاط الفوتونات الفردية.
لكن السؤال هنا: هل هناك حالات استثنائية حيث ظهر شخص حقيقي يُضيء في الظلام؟
قصص واقعية أم خرافات؟
هناك بعض القصص المتداولة على الإنترنت أو في وسائل الإعلام عن أشخاص يُزعم أن أجسامهم تُضيء في الظلام، لكن معظم هذه الحالات لم تُثبت علميًا ، وقد تكون نتيجة لأسباب أخرى مثل:
- تراكم مواد كيميائية على الجلد
- التعرض لمواد فوسفورية أو فلورية
- اضطرابات جلدية نادرة
- أو حتى خدع بصرية
مثال: في عام 2010، تحدثت وسائل إعلام عن فتاة من الهند تدعى "رامبيرو"، زُعم أنها تُضيء في الظلام، لكن لم يتم تقديم أدلة قاطعة على صحة هذه الظاهرة.
القسم الثالث: كيف يحدث التوهج الحيوي في الجسم البشري؟
الآلية العلمية وراء التوهج
الضوء الصادر من الجسم البشري يأتي من تفاعلات كيميائية داخل الخلايا ، وخاصة تلك المتعلقة بإنتاج الطاقة. أحد المصادر الرئيسية لهذا الضوء هو البيروكسيدات الحرة الناتجة أثناء تنفس الخلايا وتفاعلاتها الأيضية.أهم الأماكن التي يصدر منها الضوء في الجسم:
- الكبد والقلب : لأنهما يحتويان على عدد كبير من الميتوكوندريا (محطات إنتاج الطاقة).
- الدماغ : نظرًا لنشاطه الكهربائي والكيميائي العالي.
دور الجذور الحرة في إنتاج الضوء
الجذور الحرة هي جزيئات غير مستقرة تنتج أثناء عمليات الأيض، وعند تفاعلها مع جزيئات أخرى، يمكن أن تطلق طاقة على شكل ضوء خافت . هذا يشير إلى أن التوهج الحيوي قد يكون مؤشرًا على مستوى التوتر التأكسدي في الجسم .
القسم الرابع: العلاقة بين التوهج الحيوي والصحة النفسية والجسدية
التوهج الحيوي كمؤشر صحي محتمل
تشير بعض الدراسات إلى أن مستوى التوهج الحيوي قد يرتبط بالحالة الصحية العامة للجسم .
على سبيل المثال:
- الأشخاص الذين يعانون من التوتر أو الإجهاد قد يظهرون زيادة في إنتاج الضوء.
- الأمراض المزمنة مثل السرطان أو الأمراض المناعية الذاتية قد تؤثر على مستوى هذا الإشعاع.
- النوم الجيد والراحة قد يقللان من مستويات التوهج الحيوي، مما يشير إلى تحسن في التوازن الخلوي.
التأثير النفسي على التوهج الحيوي
وجدت دراسات أن المشاعر القوية مثل الفرح أو الحزن يمكن أن تؤثر على نشاط الخلايا وبالتالي على مستوى الضوء الصادر منها . هذا يفتح أبوابًا لفهم جديد لـ العلاقة بين العقل والجسم .
القسم الخامس: التطبيقات المستقبلية للتوهج الحيوي في الطب
استخدام التوهج الحيوي في التشخيص الطبي
إذا تم تطوير تقنيات دقيقة لرصد وتحليل الضوء الصادر من الجسم، فقد يصبح هذا مؤشرًا بيولوجيًا غير جراحي لتشخيص الأمراض، مثل:
- كشف السرطان مبكرًا
- تقييم حالة الجهاز العصبي
- مراقبة الاستجابة للعلاجات
البحث في الطب الحيوي الكمومي
هناك مجال ناشئ يُعرف بـ الطب الحيوي الكمومي (Quantum Biology)، يدرس كيف تؤثر الظواهر الكمومية، مثل التشابك والإشعاع، على العمليات الحيوية. التوهج الحيوي قد يكون أحد بوابات هذا المجال نحو فهم أعمق للحياة.
القسم السادس: قصص وحكايات عن "البشر المتوهجين" – هل هي حقيقة؟
القصة الأولى: الفتاة التي تُضيء في الظلام
في عام 2008، انتشرت قصة عن فتاة بريطانية تدعى "شارلوت جيفرسون"، زُعم أنها تُضيء في الظلام بعد أن لاحظت عائلتها ذلك أثناء الليل. لكن التحليل الطبي لم يجد أي تفسير علمي، واكتُشف لاحقًا أن الأمر قد يكون مرتبطًا بوجود مواد فلورية على الملابس أو الجلد.
القصة الثانية: الشاب الروسي "أنطوان"
في عام 2015، ظهر شاب روسي في برنامج تلفزيوني يُظهر أنه يُضيء في الظلام. لكن الخبراء شككوا في الأمر، وأشاروا إلى أن الإضاءة كانت ناتجة عن كاميرا خاصة أو استخدام مواد مضيئة.
الخلاصة: لا يوجد بشر يضيئون في الظلام بشكل طبيعي كما في الأفلام
رغم كل هذه القصص، فإن العلم لم يُثبت وجود إنسان يُضيء في الظلام بطريقة مرئية ، وإنما فقط عبر أجهزة دقيقة يمكن رصد "توهج حيوي" خافت جدًا.
الفرق بين العلم والخرافة
الخرافات الشائعة
- "الروح تُضيء في الظلام"
- "الناس الطيبون يضيئون أكثر من الآخرين"
- "الضوء يدل على وجود قوة خارقة"
هذه الخرافات لا أساس لها علميًا، وغالبًا ما تُستخدم في السينما أو الروايات الخيالية، لكنها ليست مبنية على حقائق مثبتة .
الحقائق العلمية المؤكدة
- جسم الإنسان يُطلق ضوءًا ضعيفًا جدًا غير مرئي.
- هذا الضوء مرتبط بالعمليات الحيوية والكيميائية داخل الخلايا.
- يمكن رصده بواسطة كاميرات متقدمة.
- قد يكون له علاقة بالصحة .
الخاتمة
نظام حيوي معقد يحمل أسرارًا لا تزال العلم تحاول كشفها. التوهج الحيوي هو واحد من هذه الأسرار، وهو دليل آخر على أن الإنسان ليس فقط كائنًا بيولوجيًا، بل مصدرًا للطاقة والمعلومات . رغم أننا لا نستطيع رؤية هذا الضوء بالعين المجردة، إلا أن وجوده يفتح أبوابًا جديدة أمام الطب والفيزياء الحيوية لفهم أعمق للحياة.
ربما في المستقبل القريب، ستتمكن التكنولوجيا من استخدام هذا الضوء لتحسين تشخيص الأمراض أو فهم كيفية تأثير المشاعر على الصحة. حتى الآن، يبقى جسم الإنسان أحد أعظم ألغاز الكون، ويستمر في إبهارنا بحقائق لم تخطر على البال.